كتاب: تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



قال اللّه تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا} [89: 25 و16] أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته: فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته عليّ ولكنه ابتلاء مني وامتحان له: أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه، وأخول فيه غيره؟
وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه عليّ، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له: أيصبر؟ فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم يتسخط؟ فيكون حظه السخط.
فرد اللّه سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ.
فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتّر على المؤمن لا لإهانته، إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته. فله الحمد على هذا وعلى هذا، وهو الغني الحميد.
فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فصل:
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة. وهؤلاء نوعان.
أحدها: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل. فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل. فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها، بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة: فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء، ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر، من غير أن يكون اللّه سبحانه وفق هؤلاء لا بتوفيق زائد، أوجب لهم الإيمان، وخذل هؤلاء بأمر آخر، أوجب لهم الكفر، فعباد هؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة، لا استعانة معه، فهم موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد.
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن باللّه وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده.
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به، وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها، والمعول على المحرك الأول.
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل. فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم، فقل نصيبهم من {إياك نستعين} ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير، بحسب استعانتهم وتوكلهم. ولو توكل العبد على اللّه حق توكله في إزالة جبل عن مكانه، وكان مأمورا بإزالته، لأزاله.
فإن قلت: فما معنى التوكل والاستعانة؟.
قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته باللّه، وتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادا عليه وتفويضا إليه وطمأنينة به وثقة به ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه مليّ به، ولا يكون إلا بمشيئته، شاءه الناس أم أبوه، فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مليّان بهما. فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبس همّه على إنزال ما ينويه بهما. فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع اللّه، فاللّه كافيه ولا بد.
قال اللّه تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [65: 3] أي كافيه. والحسب: الكافي. فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة، وإن لم يكن من أهل التقوى فهو:القسم الرابع: وهو من شهد تفرد اللّه بالنفع والضرر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه، فتوكل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، وطلبها منه، وأنزلها به فقضيت له، وأسعف بها، ولكن لا عاقبة له، سواء كانت أموالا أو رئاسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا، من كشف وتأثير وقوة وتمكين. فإنها من جنس الملك الظاهر، والأموال لا تستلزم الإسلام، فضلا عن الولاية والقرب من اللّه. فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر. فمن استدل بشيء من ذلك على محبة اللّه لمن آتاه إياه ورضاه عنه، وأنه من أوليائه المقربين. فهو من أجهل الجاهلين، وأبعدهم معرفة باللّه ودينه، والتمييز بين ما يحبه ويرضاه ويكرهه ويسخطه، فالحال من الدنيا. فهو كالملك والمال، إن أعان صاحبه على طاعة اللّه ومرضاته، وتنفيذ أوامره، ألحقه بالملوك العادلين البررة، وإلا فهو وبال على صاحبه ومبعد له عن اللّه، وملحق له بالملوك الظلمة، والأغنياء الفجرة.
فصل:
إذا عرف هذا: فلا يكون العبد متحققا بإياك نعبد إلا بأصلين عظيمين.
أحدهما: متابعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
والثاني: الإخلاص للمعبود. فهذا تحقيق {إياك نعبد}.
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة. وهم أهل {إياك نعبد} حقيقة، فأعمالهم كلها للّه وأقوالهم للّه، وعطاؤهم للّه، ومنعهم للّه، وحبهم للّه، وبغضهم للّه. فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه اللّه وحده. لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربا من ذمهم. بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فالعمل لأجل هؤلاء، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجائهم للضر والنفع منهم، لا يكون من عارف بهم البتة، بل من جاهل بشأنهم، وجاهل بربه، فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم. ومن عرف اللّه أخلص له أعماله وأقواله، وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه، ولا يعامل أحد الخلق دون اللّه إلا لجهله باللّه وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف اللّه وعرف الناس آثر معاملة اللّه على معاملتهم، وكذلك أعمالهم كلها وعباداتهم موافقة لأمر اللّه، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل اللّه من عامل سواه. وهو الذي بلا عباده بالموت والحياة لأجله.
قال اللّه تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [67: 2] وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا، قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه. قالوا يا أبا على: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا.
لم يقبل. وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: ما كان للّه، والصواب: ما كان على السنة. وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [18: 110].
وفي قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [4: 125] فلا يقبل اللّه من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردود على عامله، يعود عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا. وفي الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من اللّه إلا بعدا. فإن اللّه تعالى إنما بعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء.
فصل:
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة. فليس عمله موافقا لشرع، ولا هو خالصا للمعبود، كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه اللّه ورسوله. وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى اللّه عز وجل. ولهم أوفر نصيب من قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [3: 188] يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم. فهم أهل الغضب والضلال.
الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد، والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد اللّه بغير أمره، واعتقده قربة إلى اللّه فهذا حاله، كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة، وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة. وأمثال ذلك.
الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير اللّه. كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة، ويحج ليقال، ويقرأ القرآن ليقال، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير خالصة فلا تقبل {وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [98: 5] فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة اللّه بما أمر، والإخلاص له في العبادة. وهم أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فصل:
ثم أهل مقام {إياك نعبد} لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصص أربعة طرق. فهم في ذلك أربعة أصناف.
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة، ورووا حديثا لا أصل له (أفضل الأعمال أحمزها) أي أصعبها وأشقها، وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك، إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، وطرح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها.
ثم هؤلاء قسمان:
فعوامهم: ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه. ودعوا الناس إليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصهم رأوا هذا مقصودا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على اللّه، وجمع المهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته. فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على اللّه، ودوام ذكره بالقلب واللسان، والاشتغال بمراقبته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
ثم هؤلاء قسمان: فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرّقهم وأذهب جمعيتهم. والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من العبادة جمعية القلب على اللّه. فإذا جاء ما يفرقه عن اللّه لم يلتفت إليه.
وربما يقول قائلهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا ** فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟

ثم هؤلاء أيضا قسمان: منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته، ومنهم من يقوم بها، ويترك السنن والنوافل، وتعلم العلم النافع لجمعيته.
وسأل هؤلاء شيخا عارفا فقال: إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على اللّه، فإن قمت وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي، فما الأفضل في حقي؟.
فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم، وأجب داعي اللّه، ثم عد إلى موضعك. وهذا لأن الجمعية على اللّه: حظ الروح والقلب، وإجابة الداعي: حق الرب، ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل {إياك نعبد}.
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل. فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «الخلق كلهم عيال اللّه، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» رواه أبو يعلي.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفاع متعد إلى الغير، وأين أحدهما من الآخر؟.
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد: كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا: وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: «لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».
وهذا التفضيل للنفع المتعدي، واحتجوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من أتبعه، من غير أن ينتقض من أجورهم شيء».
واحتجوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن اللّه وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير».
وبقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر والنملة في حجرها».
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي نسب إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب، ولهذا أنكر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة الناس، ورأي هؤلاء التفرق في أمر اللّه ونفع عباده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.